الاحتلال اللعبة | ترجمة

صورة لغرفة الهروب في ’تلّ أبيب‘

 

المصدر:  Jewish Currents.

العنوان الأصلي: The Gamified Occupation.

ترجمة: علاء سلامة - فُسْحَة. 

 


 

أزلت، وأصدقائي، عُصب العيون الّتي غطّت عيوننا، ونظرنا حولنا. كنّا في غرفة فحص في مستشفى، غرفة مليئة بمعدّات طبّيّة متضرّرة وقديمة، مزيّنة بصور للمسجد الأقصى، وخريطة تُظهِرُ خطّة تقسيم «الأمم المتّحدة» لفلسطين عام 1948. على مكتب في الزاوية، لمعت شاشة كمبيوتر، وظهر عليها فيديو يظهر فيه الممثّل ليئور راز، في شخصيّة قائد وحدة مكافحة الإرهاب الإسرائيليّة الّتي يلعبها في مسلسل «فوضى» (2015) الناجح جدًّا على شبكة «نيتفلكس». أخبرنا راز أنّنا في مستشفى «الشفاء»، أكبر مستشفى في قطاع غزّة، وأنّ مقاتلين من «حماس» وضعوا قنبلة كيماويّة في المبنى، ستنفجر بعد ستّين دقيقة. مهمّتنا أن نجد، وننزع فتيل القنبلة قبل أن تقضي على كلّ إسرائيل. "مصير البلد كاملًا في أيديكم"، قال لنا.

في مستشفى «الشفاء» الحقيقيّ، الممرّات مزدحمة دائمًا بأناس في حاجة إلى الرعاية الطبيّة. غارات إسرائيليّة مستمرّة، و15 عامًا من الحصار، تركت المنشأة مع نقص في الموظّفين والمواد الطبيّة. لكن هنا، تحرّكنا بين الغرف المهجورة، نستمع إلى أصوات إطلاق نار وصراخ بالعربيّة، تأتي إلينا عبر مكبّرات صوت قديمة. حتّى ننهي مهمّتنا، علينا أن نحلّ عددًا من الألغاز الرقميّة: أرقام مكتوبة على ألواح مروحة سقف أعطتنا كلمة سرّ كمبيوتر عرض علينا مقطع فيديو للاحتفال بعيد الميلاد الأربعين للمستشفى، بعد ذلك، فَتَحَ لنا الرقم 40 قفلًا، وجدنا خلفه مفتاحًا فَتَحَ لنا مكتبًا طبّيًّا قلبناه رأسًا على عقب في بحثنا عن أدلّة أخرى. لم نجد هناك شيئًا، فقط انتبهنا إلى ثلاثة مجسّمات كرتونيّة بالحجم الحقيقيّ، ترتدي كوفيّات وأغطية رأس تنظر إلينا من وراء النافذة. وسرعان ما سقطت ثلاثتها حين أطلق واحد من أصدقائي وابلًا من الرصاصات المطّاطيّة من بندقيّة هواء.

 

35 دولار لتفجير مشفى في قطاع غزّة 

كنّا في «غرفة هروب فوضى»، وهو مشروع تعاون فيها منتجو المسلسل الدراميّ عن مكافحة الإرهاب، وجهة بثّ المسلسل الإسرائيليّة «يس إسرائيل». منذ أن افتُتِحَت الغرفة عام 2018، تحوّلت بين محلّ بيع بيتزا، ومحلّ بيع فلافل على شارع ألنبي، إلى ممرّ تاريخيّ دائم الازدحام في قلب تل أبيب، وجذبت دفقًا مستمرًّا من المراهقين الإسرائيليّين، والسيّاح اليهود، الّذين يدفعون 120 شيكلًا (35 دولارًا أميركيًّا) للّاعب الواحد، من أجل أن يلعبوا دور عناصر إسرائيليّة في مهمّة إلى قطاع غزّة.

ليست الغرفة إلّا الأكثر شعبيّة من بين تمظهرات اقتصاد المتعة الإسرائيليّ، الّذي بدأ يتبلور في نهايات العقد الأوّل من الألفيّة الثانية، والّذي يتيح للمستهلكين تذوّق نسخة لعبة من حكم إسرائيل العسكريّ على الفلسطينيّين. يستطيع الإسرائيليّيون اليوم أن يقيموا حفلات عمل في قواعد عسكريّة مزيّفة (امتداد لعلامة «فوضى»)، أو حفلات بلوغ في ميادين رماية عسكريّة، وأن يرسلوا أطفالهم إلى مخيّمات صيفيّة ثيمتها "مقدّمة إلى مكافحة الإرهاب". المراهقون يشترون ألعاب فيديو تحاكي غرف عمليّات الجيش الإسرائيليّ أثناء «حرب يوم الغفران»، وأن يقصفوا غزّة بالقنابل عبر تطبيق هاتفيّ. أمّا «غرفة هروب فوضى»، فليست غرفة الهروب الوحيدة من نوعها، فثمّة غرف أخرى تقدّم للزائرين فرصة لعب دور عملاء «موساد» في مهمّة ’تحييد‘ خطر ما في سوريا، أو تخريب موقع نوويّ في إيران.

مع أنّ طلب المستهلكين لنسخ مطهّرة من ألعاب الحرب، الّتي تعيد تشكيل فظاعات الاحتلال بصورة مداعبة أو دغدغة، نمى في وقت تبدو فيه حقيقة الحكم العسكريّ في تراجع مستمرّ من حياة الإسرائيليّين اليوميّة، إلّا أنّ عنف ’اقتصاد التجارب‘ هذا استمرّ في جلب الزبائن حتّى في لحظات تصاعد إراقة الدماء. عام 2022، كان الأكثر دمويّة للمدنيّين الإسرائيليّين منذ عام 2008؛ فقد شَهِدَ مقتل 27 إسرائيليًّا، 17 منهم في إسرائيل، و10 في الضفّة الغربيّة. (قتل الإسرائيليّون أكثر من ستّة أضعاف هذا العدد من الفلسطينيّين في الفترة نفسها. بل إنّ عدد القتلى الفلسطينيّين في الضفّة الغربيّة عام 2022 كان الأكبر منذ العام 2005). السياسات اليمينيّة القوميّة المتطرّفة في تصاعد، وسياسيّون منتخبون يدعون الجنود إلى إطلاق النار على الفلسطينيّين ردًّا على رمي الحجارة، ويروّجون لقصف المدارس والمشافي في غزّة دون قيود.

 

اقتصاد المتعة العسكريّة 

بينما يصبح تمجيد العنف أكثر عاديّة في إسرائيل، فإنّ اقتصاد المتعة العسكريّة يعكس ويعزّز المزاج العام. محمّد علي خالدي، أستاذ الفلسفة في «جامعة كوني»، الّذي كتب عن «فوضى»، قال لي في رسالة إلكترونيّة إن تجارب مثل «غرفة هروب فوضى» تشكّل الوعي الثقافيّ والسياسيّ، وأنّها تبني خطابًا مانويًّا يظهر فيها الاحتلال الإسرائيليّ بوصفه مسألة بقاء بسيطة أخلاقيًّا. "إنّها تخدم في تسويغ عنف الدولة الإسرائيليّ في العالم الحقيقيّ".

ما يجعل هذه التجارب مغرية للزبائن هي طبيعتها المباشرة؛ أبيض وأسود. "لم نتوقّع أن يشاهد الكثيرون مسلسلًا يتعلّق بالصراع" قال آفي إسخاروف، عميل متخفِّ سابق، تحوّل إلى مراسل حربيّ، ساهم في صنع مسلسل «فوضى» مع راز. "معظم الإسرائيليّين غير مهتمّين، لا يأبهون أبدًا بالصراع". ربّما كان جزءًا من قدرة المسلسل على الجذب، يقترح، أنّه أعاد تخيّل العمل الاستخباراتيّ والأمنيّ - الّذي هو في الواقع عمل قليل الخطر، وشديد الاعتماد على التكنولوجيا بالنسبة للعملاء الإسرائيليّين الّذين يقودون الطائرات بدون طيّار عبر أحياء قد لا تطأها أقدامهم في حياتهم كلّها - على أنّه عمل اختبار يدويّ في الذكاء والشجاعة: عملاء «فوضى» يُزرَعون في المناطق المحتلّة، يتواصلون عبر هواتف نقّالة قلّابة، بدلًا من استعمال أدوات اختراق إلكترونيّة لا تحتاج كبسة زرّ واحدة.

 

 

كذلك، في غرفة الهروب، يهرول الزبائن عبر قصّة حيث يكون الإسرائيليّ الطرف الأضعف - بدلًا من هيمنته على الفلسطينيّين من خلال القدرة العسكريّة - وكأنّ كلّ شيء على المحكّ. كما يقول إسخاروف، «فوضى» محبوب لأنّه مثير. "ماذا تفضّلين أن تشاهدي؟ مسلسلًا عن عملاء استخباراتيّين يجلسون على كمبيوتراتهم؟ أم مسلسلًا عن محاربين، واحد فلسطينيّ، والآخر إسرائيليّ؟".

صرعة ’غرف الهروب‘ بدأت في الولايات المتّحدة قبل عقد من اليوم، حين أبدى الزبائن رغبة قويّة في دفع مئات الدولارات من أجل أن يقاتلوا زومبيّات تأكل لحم البشر، أو أن يوقفوا قطارًا خارجًا عن السيطرة، أو - في غرفة هروب بثيمة يهوديّة - أن يهربوا من معادي ساميّة هائجين ينوون تنفيذ مذبحة. وصلت الصرعة إلى إسرائيل حوالي عام 2015، واتّخذت مباشرة ثيمات عسكريّة. في ذلك الوقت، كان عنف الانتفاضة الثانية قد استبدل بوعود السياسيّين بـ ’تحجيم الصراع‘ من خلال استغلال أحدث الاختراعات التكنولوجيّة الحربيّة، من بين وسائل أخرى.

مع أنّ انتشار الكاميرات البيومتريّة، والطائرة بدون طيّار، لم تقلّل من وحشيّة الاحتلال في الأراضي الفلسطينيّة، لكنّها سمحت للإسرائيليّين أن يتجاهلوا بسهولة أكبر ما كان يحدث في الجانب الآخر من الجدار. جنود أقلّ كانوا يُرسلون للقتال، وعنف أقلّ كان يصل إلى الجانب الإسرائيليّ من الخطّ الأخضر. في كتابها «لقطات: عنف الدولة أمام الكاميرا في إسرائيل/فلسطين» ()، تصف عاملة الأنثروبولوجيا ريبيكّا ستاين كيف اختفى الاحتلال تدريجيًّا من الخطاب السياسيّ الإسرائيليّ والحياة اليوميّة خلال هذه السنوات. اختفاء، تقول ستاين إنّه "بلغ حدّ أن يكون اتّفاقًا في المجتمع الإسرائيليّ، برعاية الدولة، على ترك الاحتلال العسكريّ بعيدًا عن الأنظار".

 

الاحتلال في غرف المعيشة، بعيدًا 

بمرور السنوات، بحث الجيل الأصغر من الإسرائيليّين اليهود عن سرديّات شعبيّة، وتجارب استهلاكيّة، حول الاحتلال الّذي يستمرّ في هيكلة وعيهم القوميّ، حتّى وهو يختفي تدريجيًّا من المشهد. في مقابلة حديثة، جادلت ستاين أنّ هذه التجارب أخذت شعبيّتها من قدرتها على جعل الاحتلال مهضومًا بالنسبة للمستهلكين الإسرائيليّين، الّذين قفزوا على كلّ فرصة "للمشاركة في عنف عسكريّ بطرق محكومة بدقّة كي لا تشكّل نقدًا للمجتمع الإسرائيليّ أو السياسة الحكوميّة".

ربّما كان مسلسل «فوضى» المثال الأنجح على ذلك، وهو الّذي حاز على شعبيّة عالميّة منذ عرض أولى حلقاته عام 2016. في تغطيتها للموسم الأوّل من المسلسل، جادلت صحيفة «نيويورك تايمز» أنّ المسلسل قدّم شكلًا غير متوقّع للهروب من الواقع، رابطة نجاحه في رغبة الإسرائيليّين في "زيادة أماكن، الانخراط في مواضيع يفضّلون عادة تجنّبها- ثمّ أن يعودوا إلى بيوتهم آمنين بكبسة زر". مع أنّ المسلسل يأتي بالاحتلال إلى غرف معيشة المشاهدين، تقول «نيويورك تايمز»، إلّا أنّ ما جعله مغريًا كان إظهار إساءات الاحتلال تبدو بعيدة: "يستطيع المشاهدون استراق نظرة عبر الجدار ليرون أبشع نواحي الاحتلال… ثمّ أن يتراجعوا بأمان مَطَمْئِنينَ أنفسهم أنّ كلّ ذلك مجرّد تمثيل".

مثل غرفة الهروب المنبيّة عليه، يقول منتقدو المسلسل إنّ «فوضى» يقلّل من وحشيّة الحكم العسكريّ الإسرائليّ إلى مجرّد تسلية مملوءة بالأدرينالين. شخصيّات المسلسل من القوّات الخاصّة، أبطال يرتدون القمصان مفتوحة الرقبة، وبناطيل الجينز الممزّقة، ويوزّعون وقتهم بين حيواتهم الجنسيّة المذهلة، وعمليّات جريئة متكرّرة لإنقاذ مواطنين إسرائيليّين. أمّا نظراؤهم الفلسطينيّيون، فيجري تصويرهم كمتطرّفين مدفوعين بدوافع انتقام ذاتيّة، لا برغبة تحرير وطنيّة. (عندما عرضت «نيتفليكس» المسلسل، انتقده قادة حركة المقاطعة الفلسطينيّة بسبب تمجيده لجرائم الحرب الّتي ترتكبها إسرائيل، ودعوا الجمهور إلى مقاطعته).

من السهل أن نرى كيف يمكن لهذه المقاربة للاحتلال أن تتحوّل إلى أساس تجارب ألعاب استهلاكيّة مثل «غرفة هروب فوضى». لكنّ الحكم العسكريّ الإسرائيليّ غالبًا ما يتميّز بانعدام توازن القوى، وهو يفتقر للـ"محاربين"، الّذين وصفهم إسخاروف. لا الجنديّ الذّي يراقب الطائرة بدون طيّار ذات الذكاء الاصطناعيّ من أمان قاعدته العسكريّة المحصّنة، ولا الجنود الّذين يطلقون النار على المدنيّين العزّل، يشبهون بأيّ شكل أبطال المحاكاة الحربيّة الشعبيّة.

 

الخيال الممتزج بوحشيّة الواقع 

مع ذلك، فإنّ غرفة الهروب تأخذ بعض أفكارها من الواقع: عام 2014، ألقت الطائرات الإسرائيليّة قنابل على بعد أمتار من مشفى «الشفاء» الحقيقيّ في قطاع غزّة، في انتهاك واضح لـ «معاهدة جنيف»، ولقرارات الجمعيّة العامّة لـ «الأمم المتّحدة» حول الحرب. في مواجهة الانتقادات الدوليّة، ادّعت إسرائيل أنّ «حماس» كانت تستعمل المشفى مقرًّا لها. لم تُثبِت إسرائيل ذلك قطّ، لكنّه شكّل سابقة، ففي السنوات اللاحقة استهدفت إسرائيل المرافق الطبيّة مرارًا في أنحاء مختلفة من غزّة، محطّمة نظامًا صحيًّا كان يعاني أصلًا في ظلّ محاولته خدمة آلاف الجرحى والمصابين بطلقات القنّاصين والغارات الجويّة.

في عالم الخيال الّذي يقع في غرفة الهروب، سابقت وأصدقائي الزمن. عندما وصلنا إلى الغرفة الأخيرة، كانت لدينا بضع دقائق فقط قبل أن تنطلق القنبلة نحو إسرائيل في محاولة أخيرة لإنقاذ البلاد، أمرنا الجيش الإسرائيليّ أن نبدأ عمليّة تفجير محكومة، ستؤدّي إلى تفجير المستشفى والحيّ المحيط المكتظّ بالسكّان. عدّ قائدنا الثواني عبر مكبّر الصوت. أصبحت أصوات إطلاق النار والصياح أعلى. أخيرًا، استطعنا فكّ الشيفرة، وحثّنا القائد على الهرب من المشفى قبل أن ينفجر. هربنا إلى غرفة الاستقبال، وخلفنا، خفّفت الأبواب صوت الانفجار.

 


 

روزَنَة: إطلالة على الثقافة الفلسطينيّة في المنابر العالميّة، من خلال ترجمة موادّ من لغات مختلفة إلى العربيّة وإتاحتها لقرّاء فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة. موادّ روزَنَة لا تعبّر بالضرورة عن مبادئ وتوجّهات فُسْحَة، الّتي ترصدها وتنقلها للوقوف على كيفيّة حضور الثقافة الفلسطينيّة وتناولها عالميًّا.